سورة هود - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)}.
التفسير:
تبدأ هذه السورة الكريمة بما بدأت به السورة التي قبلها، سورة {يونس} بذكر الكتاب الحكيم، الذي أوحى إلى الرسول، صلوات اللّه وسلامه عليه.. فهى تصف الكتاب بالحكمة، {كتاب أحكمت آياته} وقد وصفته السورة التي قبلها بأنه كتاب حكيم: {تلك آيات الكتاب الحكيم} ثم تعطيه وصفا آخر، هو أن الحكمة التي اشتمل عليها، لم تكن حكمة مجملة مغلقة، بل هى حكمة مفصلة، واضحة مشرقة، تنالها أفهام الناس جميعا، ويشارك فيها الحكماء وغير الحكماء، لأن الذي أحكمها هو الذي فصّلها.. فهو {حكيم} يملك الحكمة كلها.. {خبير} يضع كل شيء موضعه.
وفى قوله تعالى: {الر} إشارة إلى أن هذه الكلمة، في حروفها الثلاثة، الألف، واللام، والراء.. هى الكتاب كله، وهى الحكمة كلها.
ولكنها غير مدركة لأفهام البشر، فهى مجمل المجمل من الحكمة، وعلم مجملها ومفصّلها عند {الحكيم} وحده، وهو الحق سبحانه وتعالى.
وفى قوله تعالى: {أُحْكِمَتْ آياتُهُ} هو تفصيل مجمل لهذه الحكمة المجملة فى {الر}.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هو تفصيل لمجمل هذه الحكمة المجملة، وقد فصّلها حكيم خبير.
وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}.
هو من تفصيل هذه الحكمة التي حملها هكذا الكتاب الحكيم، واشتمل عليها.
فالدعوة إلى الإيمان باللّه، وإخلاص العبادة له وحده، والتحذير من عقاب اللّه، والتبشير بثوابه- هى مضمون هذا الكتاب الحكيم، ومحتواه!.
والضمير في {منه} يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ} أي من اللّه، {نذير وبشير}.
قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}.
و{تولوا} مضارع أصله تتولّوا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، أي إن الذي أدعوكم إليه بهذا الكتاب الحكيم، هو: {ألا تعبدوا إلا اللّه}.
{وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.
استغفروه مما يقع منكم من معاص، ثم توبوا إليه مما ترتكبون من آثام.
وفى العطف ب {ثم} إشارة إلى أن الاستغفار مطلوب دائما من كل مؤمن إذ كان الإنسان في معرض الزلل والانحراف، وهو يعالج شئون الحياة.
أما التوبة فهى رجوع إلى اللّه بعد أن يبعد الإنسان كثيرا عنه، بارتكاب منكر من المنكرات.. فالتوبة يكون الإنسان فيها في مواجهة موقف محدد، يراجع فيه الإنسان نفسه، فيرجع إلى ربه من قريب، قبل أن تشطّ به الطريق، ويبعد عن ربه.. أما الاستغفار فهو دعاء متصل بين الإنسان وربه، وهذا يعنى أن الإنسان وإن اجتهد في الطاعة، وأخلص في العبادة، وبالغ في تحرّى الاستقامة لا يسلم أبدا من أن تقع منه هنات وزلات.. وإذن فهو على شعور بالنقص دائما، وفى مداومة الاستغفار، التجاء إلى اللّه أن يطهره، وأن يمحو ما علق به من ذنوب!- وفى قوله تعالى: {يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} بيان لثمرة الإيمان باللّه، ودوام الاتصال بالاستغفار والتوبة، ففى ذلك ضمان لسلامة الإنسان، وإمساك به على طريق الحق والخير، فيكون بذلك محفوفا برحمة اللّه، مستوجبا لرضاه، قرير العين، مطمئن القلب، بالاستظلال بظله، فيعيش عمره المقدور له في هذه الدنيا، سعيدا هانئا، يجنى أطيب الثمرات، لما غرس، من خير، وما قدم من إحسان.. فهو بهذا ممتّع متاعا حسنا والضمير في قوله تعالى: {فَضْلَهُ}.
يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى، ويكون معناه: أن اللّه سبحانه وتعالى يجزى أهل الفضل والإحسان، فضلا من فضله وإحسانا من إحسانه.. كذلك يمكن أن يعود هذا الضمير إلى الإنسان، صاحب هذا الفضل، بمعنى أنه سيجد فضله الذي قدمه حاضرا بين يديه، قد ادخره اللّه سبحانه وتعالى له، وبارك عليه، وثمّره، ونمّاه له.
وفى قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} دعوة للمعاندين والسّادرين في غيّهم وضلالهم، أن يستمعوا إلى الرسول، وأن يستجيبوا له، وإلا فهم في مواجهة بلاء، وعذاب، يوم القيامة.
وفى خوف النبي عليهم من عذاب هذا اليوم ما يشعر بحرص النبي على هدايتهم، وإشفاقه عليهم، من هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه.
{فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير} وفى وصف اليوم بأنه {كبير} إشارة إلى ما فيه من أهوال ثقال، وأن كل لحظة، فيه لثقلها على النفس، تعدل أياما وسنين.. هكذا لحظات الشدائد والمحن، تمر ثقيلة بطيئة، يحسبها الذين يعيشونها دهرا طويلا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا} [27: الإنسان].
قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
يثنون صدورهم: أي يطبقونها، ويطوونها على ما بداخلها من شر، وزور، وبهتان.
يستغشون ثيابهم: أي يلبسونها، ويتخذونها غشاء لهم.
{ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه}.
هذا تقرير لواقع المشركين وأصحاب الضلالات، مع أنفسهم، إذ لما في صدورهم من منكرات الأمور، وعوارها، يحاولون جاهدين أن يخفوا هذا المنكر الذي ضمّت عليه صدورهم، ويداروا هذا العوار الذي إن ظهر للناس فاحت منه ريح خبيثة، تفضحهم وتخزيهم بين الناس.. فهم أبدا على حذر وحرص، من أن يطلع أحد على هذا الفعل الفاضح الذي اتخذوا له من صدورهم مسرحا يتحرك عليه، ويعيش فيه.
فالأسلوب هنا خبرى، يقرر حقيقة واقعة، وهى أن هؤلاء أصحاب منكرات، يطوون عليها صدورهم حتى لا يطلع عليها أحد، وقد بلغ بهم سوء ظنهم باللّه، وجهلهم بما له من صفات الكمال، أنهم يظنون بهذا الفعل أنهم يحولون بين اللّه تعالى، وبين أن يعلم ما هم عليه من منكر.
وفى قوله تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} هو ردّ على سوء فهمهم لكمالات اللّه، وجهلهم بنفوذ علمه وسلطانه إلى كل ذرّة في هذا الوجود.. وأنهم مقهورون تحت سلطان هذا العلم، لن يستطيعوا أن يخفوا منه شيئا، ولو مزجوه بلحمهم وخلطوه بدمهم.. فهم حين يستغشون ثيابهم ليستروا بها عوراتهم، لا يسترونها عن اللّه، كما لا يسترون عنه، ما أطبقوا عليه صدورهم من عورات ومنكرات: {إنه عليم بذات الصدور} أي بما في داخلها، وما أطبقت عليه، فكيف بالصدور نفسها؟
وذات الصدور، حقيقتها.. وعلم اللّه سبحانه وتعالى بها، هو علم كامل، إذ هو سبحانه الذي خلقها، وأودع ما فيها من قوى، فكيف يدخل عليها شيء ثم يخفى عن الخالق سبحانه؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}؟.


{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}.
التفسير:
مناسبة قوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة كشفت عن سوء ظن المشركين والمنافقين باللّه، وجهلهم بما له من علم، وقدرة، وأنه- سبحانه- يعلم سرّهم وجهرهم، ويطلع على ما طووا عليه صدورهم من ضلال وإلحاد.
وفى هذه الآية والآية التي بعدها، يكشف سبحانه وتعالى عن بعض مظاهر علمه وقدرته، فيقول سبحانه: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ}.
والدابة كل مادب على الأرض من كائنات حيّة.. من الحشرات والهوامّ.
إلى الإنسان.. واختصاص دوابّ الأرض بالذكر، لأنها هى التي تشاركنا الحياة على هذه الأرض، وهى التي تقع لحواسنا ومدركاتنا. وهى التي تحتاج إلى ما يمسك عليها حياتها، من طعام وشراب، ومأوى.. ونحو هذا.
فكل ما على الأرض من كائنات، ومنها الإنسان- مكفول له رزقه من اللّه.. فهو- سبحانه- الذي خلقه، وهو- سبحانه- الذي يقدر رزقه، ويسوقه إليه من فضله وكرمه.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} إشارة إلى أن اللّه- سبحانه- قد أوجب ذلك على نفسه، حتى لكأن كل حى له عند اللّه- سبحانه وتعالى- حق يطالب به.. وذلك من كرم الكريم، ورحمة الرحيم.
وإذا كان في الناس من يوجب على نفسه ما لا يجب من أفعال الخير، كما يقول الشاعر:
على مكثريهم رزق من يعتريهم *** وعند المقلّين السماحة والبذل
نقول إذا كان في الناس من يوجب على نفسه ما لا يجب، من فضل وإحسان، فكيف برب الناس، ملك الناس، إله الناس.. من لا تنفذ خزائنه، ولا تنقص بكثرة العطاء نعمه؟ وكيف بمن خلق هذه الأحياء.. ألا يضمن حياتها، ويمسك وجودها؟ إن الخلق لا تظهر حكمته، ولا تتجلى آثاره، إلا إذا قام معه ما يضمن بقاءه، ويحفظ الحياة التي أودعها الخالق فيه، وإلا كانت عملية الخلق عبثا، يتنزه اللّه سبحانه وتعالى عنه.
وفى قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} إشارة إلى تمكن علم اللّه، وإحاطته بالموجودات، وأنه يعلمها علم تفصيل لا علم إجمال وحسب، فيعلم الكائنات، فردا فردا، مستقرها في أصلاب آبائها، ويعلم مستودعها في أرحام أمهاتها.. فهى قبل أن تكون كائنا في هذا الوجود، ودابة من دواب هذه الأرض، كان علم اللّه قائما عليها، وعنايته موكّلة بها، حتى إذا أودعها رحم الأم ظهر الأرض، كان على اللّه رزقها وكفالتها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [98: الأنعام].
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
هو استعراض أيضا لبعض مظاهر قدرة اللّه.. فهو- سبحانه- الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام.
وقد أشرنا من قبل إلى أن هذا الزمن الذي خلقت فيه السموات والأرض، إنما هو الوعاء الزمنى، الذي يتمّ فيه خلق هذين الكائنين واستواء خلقهما، ونضجه، شأنهما في هذا شأن أي مخلوق.
فكما يتم خلق الجنين الإنسانى- مثلا- في تسعة أشهر، تمّ خلق السموات والأرض في ستة أيام.. فالسموات والأرض أشبه بالكائنات الحية في الخلق، كان لهما عند اللّه سبحانه أجل استوفيا فيه خلقهما.
أما القول بأن اللّه سبحانه قد شغل بخلق السموات والأرض ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع، فهو مما تحدّثت به التوراة التي عبث بها بنو إسرائيل.
وقوله تعالى: {وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} إشارة إلى أن خلق السموات والأرض جاء متأخرا عن خلق الماء وهذا ما ينبغى أن نقف عنده، ولا نسأل عما وراءه، فذلك مما لا تدركه مدركاتنا، وهو مما ينبغى أن نؤمن به إيمان تسليم وتصديق، دون أن نبحث أو نسأل عن العرش ما هو؟ وأين هو؟ فالسؤال عن مثل هذا مضلّة، والبحث فيه عناء.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [85: الإسراء] وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
الابتلاء الاختيار، ولام التعليل متعلقة بقوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}، أي وخلقكم أيها الناس وجعلكم خلائف في الأرض، ومكّن لكم فيها بما أودع فيكم من عقل، وما سخر لكم من مخلوقات، ليتبين من ذلك كيف تعملون، وكيف تكون خلافتكم فيما استخلفكم اللّه فيه.. ولو لا هذا ما كان لكم وجود، ولا كان منكم هذا الذي أنتم عليه، من إيمان وكفر، وهدى، وضلال.
وفى قصر الابتلاء والمفاضلة فيما ابتلوا فيه، على الأعمال الحسنة- إشارة إلى ما يجب أن يكون من الناس، وهو العمل في ميدان الإحسان وحده، والتنافس بينهم في هذا المجال.. ففى ذلك ينبغى أن يتنافس المتنافسون.
وفى قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} إشارة إلى ما كشف عنه هذا الابتلاء والامتحان.. فقد كشف عن بعض نفوس خبيثة، وعقول فاسدة، وقلوب مريضة، لم تتعرف إلى اللّه، ولم تهتد إليه، ولم تستمع لدعاة الداعين إلى الإيمان باللّه، وباليوم الآخر.. فإذا استمعوا إلى شيء من كلام اللّه، يحدثهم بأنهم مبعوثون بعد موتهم، أنكروا هذا القول، وقالوا: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
يقولون ذلك على القطع والتوكيد، حتى لكانّ لهم عليه برهانا مبينا، أو حجة بالغة.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
الأمة: الجماعة من الناس، على مشرب واحد.. فهم قطعة من المجتمع الإنسانى.
والأمة: القطعة من الزمن، كما في قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [45: يوسف].
والأمة: الحال المقتطعة من أحوال الناس، كما في قوله سبحانه: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} [22: الزخرف] أي على حال.
يحبسه: يؤخره.. وحاق بهم: أي أحاط بهم، واشتمل عليهم.
وهذا أيضا مما تكشّف عنه الابتلاء الذي ابتلى به الناس، إذ خلقهم اللّه وأقامهم على هذه الأرض.. فقد كان في الناس من كذبوا بآيات اللّه ورسل اللّه، واليوم الآخر.. وكان منهم من بالغ في هذا التكذيب، وبلغ الغاية في السفاهة والحمق.. فهم إذا أنذروا بالعذاب يوم القيامة قالوا: متى هو؟ وإذا أنذروا بالعذاب والهلاك في الدنيا قالوا: ما يحبسه؟ يقولون ذلك في تحدّ وعناد، وإصرار على الكفر والتكذيب، بهذا الوعيد الذي توعدهم اللّه به.
ولو عقلوا ما استعجلوا هذا البلاء، ولأخذوا أنفسهم بما ينجيهم منه.
وقد رد اللّه سبحانه وتعالى عليهم بقوله: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} أي أنه لو وقع بهم هذا العذاب فلن يدفع عنهم، ولن يكون لهم فيه إلا البلاء والهلاك.. فما بالهم- قاتلهم اللّه- يستعجلون ما فيه دمارهم وهلاكهم؟
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}.
هو عرض كاشف لحال الإنسان، وموقفه من نعم اللّه ونقمه.
فهو إذا أذاقه اللّه سبحانه وتعالى طعم نعمة من نعمه، وذلك من رحمة اللّه به، وإحسانه إليه- سكن إليها واطمأن بها، وشغله الاستمتاع بها عن ذكر اللّه، بل وعن الإيمان باللّه..!
فإذا نزع اللّه سبحانه وتعالى منه هذه النعمة- وذلك بسبب ما كان منه من انحراف عن اللّه، ليكون له من ذلك نخسة تذكره باللّه- إذا فعل اللّه سبحانه وتعالى ذلك به، يئس من رحمة اللّه، وكفر به وبآلائه، ولم يعد يذكر شيئا مما كان للّه عليه من فضل.. فإذا عاد اللّه بفضله عليه، وأذاقه من رحمته، لم يذكر اللّه، وإنما يذكر نفسه، ويشغل عن اللّه بالفرحة، بزوال هذا البلاء الذي كان فيه، ويستعلى على الناس تيها وفخرا.
وفى التعبير عن النعم بالرحمة، إشارة إلى أنها من فيض رحمة اللّه على عباده.
وفى التعبير عن زوال النعمة بالنزع، إشارة إلى أن هذه النعمة كانت ثوبا ستر اللّه به من أنعم عليه بها، فلما لم يؤدّ ما لهذا النعمة من واجب الشكر للّه عليها، واتّخذ منها سلاحا يحارب به اللّه، ومطية يمتطيها إلى تخطى حدوده- انتزع اللّه هذا الثوب الذي كان يستره به، وأخذه بقوله سبحانه: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [53: الأنفال].
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} هو استثناء من هذا الحكم العام الواقع على الإنسان في جنسه كله، وهو أنه إذا أنعم اللّه عليه بطر، واستكبر، وكفر.. وإن مسته ضراء، جزع ويئس، وازداد كفرا، وإن عادت عليه النعمة، عاد سيرته الأولى معها.
كفرانا وطغيانا.. هذا هو الشأن الغالب في الناس.. {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات} فإنهم يستقبلون نعم اللّه بالحمد والشكر، ويتقبلون امتحان اللّه لهم حين يمسهم بضر- بالتسليم والصبر.. {أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}.
لهم مغفرة لذنوبهم بما صبروا على المكروه، ولهم أجر عظيم على ما كانوا فيه من طاعات وأعمال صالحة، مع هذه النعم التي أنعمها اللّه عليهم.


{فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ.. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، التي استفتحت بها السورة الكريمة، قد ذكرت القرآن الكريم، وأنه كتاب أحكمت آياته، ثم فصّلت من لدن حكيم خبير، وأنه مع ما في هذا الكتاب من علوّ، وإشراق، فقد مكر المشركون به، وجعلوا يكيدون له، ويسخرون من النبي الكريم الذي يدعوهم به إلى اللّه، ويقولون عن هذا القرآن: إنه سحر، وعن النبي:
إنه ساحر، وشاعر، ومجنون- فناسب أن يذكر بعد هذا ما كان يجد النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- في صدره من ضيق وحرج، من بهت قومه له، وسخريتهم به، وخلافهم عليه.. فجاء قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} جاء كاشفا للنبى عن تلك الحال التي يعانيها، ويجد من آثارها في نفسه، همّا وقلقا، واستثقالا من مواجهة قومه بما يكرهون من عيب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، ووعيدهم بالعذاب الهون في الآخرة.
كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} [98: الأنبياء]، وكقوله سبحانه: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا. إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً} [10- 13:
المزمل] فكان النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- يجد حرجا من أن يلقى قومه بمثل هذه الحرب السافرة، التي تزيد من حنقهم عليه، وعداوتهم له، وقطع ما بينه وبينهم من أواصر المودة والقربى.. إنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- حريص على امتثال أمر ربه، بتبليغ ما أنزل إليه من كلماته، ثم هو حريص على أن يشدّ قومه إليه، وألا يدع حبال القربى تتقطع بينهم وبينه..! فكان من هذا وذاك في ضيق وحرج!- وفى قوله تعالى {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ.. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
في هذا عزاء للنبى، وتسرية له، وتثبيت لفؤاده على طريق دعوته.
وترك النبي لبعض ما يوحى إليه، هو إمساكه دون مواجهة المشركين به، وذلك فيما يسوؤهم في آلهتهم، أو في أنفسهم، أو فيهما معا.
أما ما يضيق به صدر النبي فهو ما يرمونه به من كذب، وما يقترحون عليه من مقترحات، بأن يأتيهم بآيات مادية، تجابه حواسهم.. كأن ينزّل عليه كنز، أو يجىء معه ملك من السماء، يشهد له بأن الكتاب الذي معه، هو من عند اللّه!- وقد جاء قوله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ردّا على المشركين، وعلى مقترحاتهم التي يقترحونها، وأن الرسول الذي جاءهم، إنما رسالته فيهم هو أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وينذر الذين لا يؤمنون باللّه، ولا برسوله، ولا باليوم الآخر.. {واللّه على كل شيء وكيل} أي قائم على كل شىء.. لا يملك أحد معه شيئا.. فليس للنبى أن يغيّر أو يبدّل فيما أمره اللّه بتبليغه إلى الناس، ولو كان فيه ما يسفّه أحلامهم، ويكشف ضلالهم.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
هو حكاية لمقولة من من مقولات المشركين في القرآن الكريم، مما يضيق به صدر النبي، ويألم منه.. وهو قولهم إن هذا القرآن حديث افتراه محمد على اللّه، ونسبه إليه، وما هو إلا من أساطير الأولين، اكتتبها، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.
وقد أمر اللّه سبحانه وتعالى النبي الكريم أن يلقاهم متحديّا أن يأتوا {بعشر سور مثله مفتريات}.
أي إذا كان هذا القرآن من مفتريات محمد.
وكذبوا وخرسوا- فإن في عالم الافتراء متسعا لمن شاء أن يتعامل معه، ويحمل من معطياته ما يشاء.. فليفتروا عشر سور من مثل هذا القرآن، في بيانه لعجز، وآياته المشرقة، وفى تعاليمه الحكيمة، ووصاياه الرشيدة.
ثم إن لهم أن يستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به، من أحبار وكهان، ومن شعراء وخطباء، ومن قصّاص ومحدّثين.. فهذه هى الدنيا كلها، وهؤلاء هم أهلها جميعا، فليقّلبوا وجوه الأرض كلها، وليجمعوا إليهم أهل العلم جميعا.. ثم ليأنوا بعشر سور مثله مفتريات.. فإنهم إن فعلوا- وهيهات- فقد صحّ قولهم في القرآن إنه مفترى، وصدق حكمهم عليه بأنه من عمل محمد، ولا نسبة له إلى اللّه.
أما إن عجزوا، بعد أن يجهدوا جهدهم، ويبلوا بلاءهم، ويدعوا من استطاعوا، فليحكموا هم على أنفسهم بأنهم هم المفترون، وأنهم هم الكاذبون، فيما قالوه في القرآن الكريم.. وليعلموا أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم اللّه، ومن عند اللّه.. فهل يرجعون بعد هذا عن غيّهم وضلالهم، ويذعنون للحق الذي فضح نوره ما قد علا وجوههم من خزى وذلّة، بين يدى هذا الامتحان الذي خرّوا فيه صرعى لأول جولة، في ميدان التحدّى؟
والضمير في قوله تعالى {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} يعود إلى من يدعوهم المشركون، من الأعوان والأنصار، ويستعينون بهم في افتراء عشر سور من مثل هذا القرآن.. وفى هذا إشارة إلى أن المشركين أنفسهم لا يستطيعون أن يردوا هذا المورد، ولا أن تحدثهم أنفسهم بالوقوف أمام القرآن الكريم فقد عرفوه، وعرفوا علوّ منزلة، وأنه أبعد من أن تطوله يد إنسان.
وإذن، فهم إذا اتجهوا إلى التحدّى فلن يتجهوا إلى أنفسهم، إذ قد فرغ حسابهم معها من أول لقاء مع القرآن.. وأنه إذا كان سبيل إلى لقاء هذا التحدّى، فليكن بالبحث عن قوة أخرى غيرهم.. فليبحثوا عنها.
فإن استجابت لهم تلك القوة، أو القوى، فليأتوا بما حصلوا عليه منها، وليلقوا به بين يدى القرآن!- وفى قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} إشارة إلى أن القرآن الكريم نزل محمّلا بعلم اللّه.. أي يحمل علم اللّه، وإذا كان هذا شأنه، فكيف تقوم قوة في هذا الوجود، تتحدّى هذا العلم، وتقف له.
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [88: الإسراء] ويمكن أن يحمل قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} على معنى أنه أنزل عن علم من اللّه، وأن ما أوحى به جبريل إلى النبي، كان بأمر اللّه سبحانه وبعلمه.
وفى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} تحريض للمشركين على أن ينتهزوا هذه الفرصة، وأن يستسلموا للقرآن الكريم، وأن يعطوه أيديهم كما يعطى الأسير يده لمن صرعه في ميدان القتال! قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
البخس: النقص، والخسران في الميزان أو المكيال، وفى كل ما هو مطلوب أداؤه من حقوق.. حبط ما صنعوا: أي بطل وفسد.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنّ المشركين، وقد أعجزهم العجز عن أن يثبتوا في هذا الامتحان بين يدى القرآن- لم يكن أمامهم إلا أحد طريقين.
فإما أن يستسلموا للقرآن، ويسلموا له، ويؤمنوا به، وباللّه الذي أنزله، وبالرسول الذي أنزل عليه.. وبهذا يدخلون في عداد المؤمنين، ويعملون عمل المؤمنين للدنيا والآخرة معا.
وإما أن يظلوا على ما هم فيه من شرك وضلال، فيعيشوا لدنياهم، ويعملوا لها، غير ملتفتين إلى ماوراء هذه الدنيا، ولا منتظرين حسابا ولا جزاء.. إنهم إن فعلوا، فلهم ما أرادوا، فليعملوا للدنيا، وليقطفوا من ثمارها ما تغرس أيديهم، فلن يحرمهم اللّه ثمرة عملهم فيها.. ولن يعجل اللّه لهم العذاب، ولن يأخذهم بذنوبهم في هذه الدنيا.. فإذا كان يوم القيامة، وبعثوا من القبور، وسيقوا إلى الحساب والجزاء.. فهنالك يرون سوء مصيرهم، وأنهم قد جاءوا إلى هذا اليوم مفلسين، لأنهم لم يعملوا له عملا.. وإنه {ليس لهم في الآخرة إلا النار}.
أما ما عملوه في الدنيا فهو باطل وقبض الريح، حتى ما كان لهم من أعمال تحسب من الصالحات في أعمال المؤمنين، هى أعمال باطلة، لأنها لم تستند إلى الإيمان باللّه، ولم تعمل لحساب الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [20: الأحقاف] وفى الإشارة إلى هؤلاء المشركين بقوله تعالى: {أُولئِكَ} مواجهة لهم بهذا الحكم الذي حكم به عليهم، وهو حكم يساقون به إلى النار، فيجدون مسّ لهيبها قبل أن يغمسوا فيها..!

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7